إن عدم الاستقرار الحاصل في الشرق الأوسط يؤثر وبشكل كبير على اقتصاديات المنطقة، وبالأخص على الاقتصاد الأزرق. فهذا الاقتصاد، الذي يركز على الاستخدام المستدام للموارد البحرية لدعم النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحسين البيئة، يعتمد بشكل كبير على استقرار الدولة السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، فإن وجود مشاكل مثل النزاعات الإقليمية، والتحديات الاقتصادية، والأزمات البيئية يعوق تطوير هذا النموذج الاقتصادي وضمان استدامته في المنطقة.
وانطلاقًا من هذه الإشكالية، يعتمد هذا المقال على مقاربة تحليلية تسعى إلى تفكيك أثر عدم الاستقرار في الشرق الأوسط على الاقتصاد الأزرق عبر مجموعة من الأبعاد المترابطة.
يقوم التحليل أولاً على البعد السياسي من خلال دراسة انعكاسات النزاعات الإقليمية والتوترات البحرية على التجارة والملاحة الدولية. ثم ينتقل إلى البعد الاقتصادي مبرزًا كيف تعيق تقلبات أسعار النفط وضعف ثقة المستثمرين فرص الاستثمار في المشاريع البحرية. كما يتناول المقال البعد الهيكلي والمؤسسي عبر التركيز على دور ضعف الحوكمة والفساد والبطالة في زيادة هشاشة الاقتصادات الساحلية. ويُضاف إلى ذلك البعد البيئي الذي يوضح أثر النزاعات والتغير المناخي على البيئة البحرية ومواردها. وفي الختام، يتم استعراض الحلول الممكنة من خلال إبراز دور الشباب والنساء في ابتكار استراتيجيات مستدامة، إلى جانب أهمية بناء شراكات إقليمية ودولية.
ويهدف هذا الهيكل إلى تقديم تحليل شامل يعكس طبيعة التحديات ويستكشف إمكانات تحويلها إلى فرص لدعم الاقتصاد الأزرق في المنطقة.
البعد السياسي
لا يمكن الحديث عن الاقتصاد الأزرق في الشرق الأوسط من دون التوقف عند تأثير الاضطرابات السياسية والنزاعات الإقليمية. فالممرات البحرية الحيوية مثل مضيق هرمز وباب المندب ليست مجرد قنوات مائية، بل شرايين للتجارة العالمية. أي توتر عسكري أو سياسي فيها ينعكس فورًا على حركة السفن، سواء عبر ارتفاع تكاليف التأمين أو اضطرار شركات الملاحة إلى تغيير مساراتها نحو طرق أطول وأكثر تكلفة. هذا ما شهدناه مؤخرًا في البحر الأحمر، حيث تسببت الهجمات على بعض السفن التجارية في إرباك الملاحة الدولية وتراجع ثقة المستثمرين في المنطقة.
كما أن النزاعات الممتدة في دول مثل اليمن وسوريا وليبيا تقدم صورة أوضح لهذا الواقع؛ إذ تتحول الموارد التي كان يمكن استثمارها في تطوير الموانئ والبنية البحرية إلى ميزانيات أمنية وعسكرية. في هذا السياق، يلفت باحثون مثل Donelli & Dentice (2020) إلى أن التنافس الإقليمي بين قوى الشرق الأوسط في القرن الإفريقي أدى إلى تفاقم التوترات المحلية هناك، وهو ما انعكس سلبًا على فرص التنمية البحرية. كما يشير Gebru وزملاؤه (2023) إلى أن الأمن البحري في تلك المنطقة أصبح هشًّا بفعل هذه التجاذبات.
إن الأزمة الخليجية والتي بدأت في 2017 واستمرت حتى 2021 تمثل نموذجًا عمليًا لهذا الترابط بين السياسة والاقتصاد الأزرق. ففي مواجهة الأزمة، وكحل سريع لمواجهة الاغلاقات الجوية والبحرية والبرية عن دولة قطر، سرّعت الدوحة من تطوير ميناء حمد وافتتحت خطوطًا بحرية مباشرة مع شركاء جدد مثل سلطنة عمان وتركيا والهند وباكستان. ورغم أن هذا التطويق والحصار كان تحديًا سياسيًا واقتصاديًا، إلا أنه شكّل أيضًا دافعًا لبناء منظومة لوجستية أكثر استقلالية ومرونة. ففي الأشهر الخمسة الأولى من السنة حافظ الميناء على متوسط ثابت يقارب 40 ألف حاوية شهريًا، لكن في يونيو شهد انخفاضًا حادًا إلى نحو النصف نتيجة الحصار الإقليمي المفروض على قطر. غير أن البلاد، ابتداءً من يوليو، سرعان ما تكيّفت من خلال إعادة تموضع ميناء حمد في قلب استراتيجيتها التجارية. ومع فتح خطوط شحن مباشرة مع عُمان وتركيا والهند وشركاء آخرين، لم تستعد قطر مستويات ما قبل الأزمة فحسب، بل تجاوزتها في ديسمبر لتصل إلى أكثر من 65 ألف حاوية.
هذا التعافي يبرز كيف أن الاقتصاد الأزرق شكّل حلاً استراتيجيًا لمعالجة الأزمة. فمن خلال تطوير ميناء حمد وتنويع طرق التجارة البحرية، حوّلت قطر التحدي الجيوسياسي إلى فرصة لتعزيز المرونة، وتأمين سلاسل الإمداد، وترسيخ دورها كمركز لوجستي إقليمي، كما أنه يدفع الدول إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها البحرية وتحويل الأزمات إلى فرص.
البعد الاقتصادي
الاقتصاد الأزرق في الشرق الأوسط لا ينفصل عن الأوضاع الاقتصادية العامة للدول، والتي تتأثر بدورها بالتقلبات السياسية وأسعار النفط. فالمنطقة ما زالت تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط والغاز، وهو ما يجعل الاستثمار في القطاعات البحرية المستدامة مثل السياحة الساحلية أو الاستزراع السمكي أو الطاقة المتجددة البحرية يتراجع كلما هبطت أسعار النفط أو واجهت الحكومات ضغوطًا مالية. في مثل هذه اللحظات، تتحول الأولويات من الاستثمار طويل المدى إلى خطط إنقاذ قصيرة الأمد، وغالبًا ما تكون مشاريع الاقتصاد الأزرق من أولى القطاعات المتضررة.
الأمر لا يتوقف هنا؛ فعدم الاستقرار السياسي يترك أثرا مباشرا على ثقة المستثمرين. حيث تشير دراسات حديثة إلى أن التذبذب السياسي في المنطقة يقلل من جاذبية الاستثمارات في المشاريع البحرية، إذ يتردد المستثمرون في ضخ أموالهم في بيئة قد تتغير فيها القوانين أو البنية التحتية بسرعة نتيجة الأزمات (Alshadadi & Deshmukh, 2024). هذا التردد يعوق بناء مشاريع استراتيجية تحتاج إلى سنوات من الاستقرار حتى تحقق عوائدها، مثل محطات تحلية المياه أو الطاقة البحرية.
ومن الأمثلة الحية، نرى كيف أن بعض الدول المطلة على البحر الأحمر والخليج العربي واجهت صعوبة في جذب الاستثمارات السياحية البحرية رغم الإمكانات الطبيعية الكبيرة. السبب لا يعود فقط إلى عوامل بيئية أو لوجستية، بل إلى حالة عدم اليقين الاقتصادي والسياسي التي تجعل المستثمرين يفضّلون أسواقًا أكثر استقرارًا. وهنا يظهر التحدي الحقيقي للدول في اقناع المستثمرين المحليين والدوليين بأن مشاريع الاقتصاد الأزرق ليست مغامرة غير محسوبة، بل استثمار طويل الأمد قادر على مواجهة التقلبات.
البعد الهيكلي والمؤسسي
إلى جانب السياسة والاقتصاد، يظل العامل المؤسسي أحد أبرز المحددات لمستقبل الاقتصاد الأزرق في الشرق الأوسط. فضعف الحوكمة والفساد الإداري والبيروقراطية الثقيلة تجعل من الصعب إدارة الموارد البحرية بطريقة مستدامة. في كثير من دول المنطقة، لا تزال المؤسسات عاجزة عن فرض القوانين البيئية أو تنظيم عمليات الصيد أو حتى مراقبة التلوث الصناعي، ما يفتح الباب أمام استنزاف الثروات البحرية بدل استثمارها.
تشير دراسة Parent & Zouache (2022) إلى أن هشاشة مؤسسات الدولة في المنطقة، إلى جانب الإرث الاستعماري في رسم الحدود والنزاعات المرتبطة بها، كلها عوامل تزيد من عدم الاستقرار وتعيق خطط التنمية طويلة المدى. ضعف المؤسسات لا يعني فقط قصورا إداريا، بل ينعكس أيضًا على جذب الاستثمارات؛ إذ أن الشركات الدولية تبحث دائمًا عن بيئة قانونية واضحة وإجراءات شفافة تضمن استدامة استثماراتها.
إضافة إلى ذلك، تلعب البطالة المرتفعة دورًا في إضعاف استقرار المجتمعات الساحلية، حيث يؤدي غياب فرص العمل إلى تفاقم الهجرة غير النظامية أو الانخراط في أنشطة غير مشروعة مثل الصيد الجائر أو التهريب. على النقيض، تُظهر الدراسات أن ارتفاع مشاركة النساء في سوق العمل يعزز من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما ينعكس إيجابًا على قطاعات الاقتصاد الأزرق التي تحتاج إلى قوى عاملة متنوعة ومؤهلة. مما يبرهن أن إصلاح المؤسسات وتعزيز الشفافية وتوسيع مشاركة الفئات الشابة والنسائية ليس مجرد خيار سياسي، بل شرط أساسي لبناء اقتصاد أزرق قادر على الصمود.
البعد البيئي
البيئة البحرية في الشرق الأوسط لا تعيش بمعزل عن الصراعات السياسية والاقتصادية، بل هي أول المتأثرين بها. فالنزاعات العسكرية تترك وراءها أضرارًا بيئية مباشرة، مثل التلوث النفطي أو تدمير البنية التحتية الساحلية، وهو ما يضعف الثروة السمكية ويحد من إمكانات السياحة البحرية. في اليمن مثلًا، تزايدت المخاوف من تسرب ناقلة النفط صافر في البحر الأحمر، وهو خطر كان سيشكل كارثة بيئية واقتصادية معًا، نظرًا لاعتماد آلاف الأسر على الصيد كمصدر دخل أساسي. وقد حذّرت الأمم المتحدة من أن التسرب كان قد يقضي على 200,000 وظيفة صيد محلية ويؤدي إلى تدمير واسع للشعاب المرجانية والنظم البيئية البحرية الحساسة (United Nations, 2023).
إضافة إلى ذلك، يضيف التغير المناخي طبقة أخرى من التحديات، حيث أن ارتفاع درجات الحرارة وازدياد ملوحة المياه يهددان التنوع البيولوجي البحري، في وقت تحتاج فيه المنطقة إلى تعزيز قدراتها الغذائية عبر الاستزراع السمكي. وقد أشار الحسن وآخرون (2019) إلى أن الصراعات غالبًا ما تُضعف قدرة الدول على مواجهة هذه التحديات البيئية، لأنها تحول الأولويات من حماية الموارد إلى تأمين الحدود وتمويل العمليات العسكرية.
كذلك، ينعكس التدهور البيئي على صورة المنطقة كوجهة استثمارية؛ فالدول التي لا تملك سياسات بيئية واضحة وصارمة تجد صعوبة في جذب الاستثمارات الأجنبية، خصوصًا في القطاعات المرتبطة بالطاقة المتجددة البحرية أو السياحة المستدامة. وبذلك يصبح الاستثمار في البيئة البحرية ليس مجرد مسألة بيئية بحتة، بل عنصرًا اقتصاديًا وأمنيًا في آن واحد.
دور الشباب والنساء والحلول
رغم كل التحديات السياسية والاقتصادية والبيئية، يبقى هناك مجال واسع لتحويل الأزمات إلى فرص عبر تمكين الشباب والنساء. فالشباب في المنطقة هم الفئة الأكثر قدرة على الابتكار، سواء في التكنولوجيا البحرية أو مشاريع الطاقة المتجددة أو الاستزراع السمكي المستدام. دخولهم هذا المجال يعني إدخال أفكار جديدة وأساليب رقمية تعزز من كفاءة إدارة الموارد البحرية وتفتح أسواق عمل جديدة.
أما النساء، فإن إشراكهن في صنع القرار وفي المشاريع البحرية يضيف بعدا اجتماعيا وثقافيا يعزز الاستقرار. تشير دراسات مثل Parent & Zouache (2022) إلى أن ارتفاع مشاركة النساء في سوق العمل يرتبط إيجابًا بالاستقرار السياسي والاجتماعي، ما يجعل تمكينهن في الاقتصاد الأزرق ليس فقط مطلبًا للعدالة، بل أيضًا رافعة للتنمية.
إلى جانب ذلك، يمكن للشراكات الدولية أن تلعب دورًا حاسمًا. فالتعاون مع الاتحاد الأوروبي أو منظمات التنمية الدولية، على سبيل المثال، يفتح الباب أمام التمويل والتدريب وتبادل الخبرات. مثل هذه الشراكات تعزز مرونة سلاسل الإمداد البحرية وتساعد على مواجهة الصدمات الناتجة عن النزاعات أو تقلبات الاقتصاد العالمي.
الخاتمة
الاقتصاد الأزرق في الشرق الأوسط يعيش على خط التماس بين الفرص والتحديات. من جهة، يملك مقومات طبيعية وبشرية هائلة تؤهله ليكون رافعة للتنمية المستدامة. ومن جهة أخرى، يواجه عراقيل ناتجة عن عدم الاستقرار السياسي، والاعتماد الاقتصادي على النفط، وهشاشة المؤسسات، وتفاقم الأزمات البيئية. ومع ذلك، تُظهر تجارب مثل الأزمة الخليجية 2017 أن الأزمات يمكن أن تتحول إلى فرص لتسريع بناء بنى تحتية بحرية مستقلة وأكثر مرونة.
المستقبل يعتمد على مدى قدرة دول المنطقة على الاستثمار في شبابها ونسائها، وبناء شراكات إقليمية ودولية تعزز الاستقرار. بذلك، يمكن للاقتصاد الأزرق أن يتجاوز كونه مجرد مفهوم بيئي أو اقتصادي، ليصبح أداة استراتيجية لترسيخ التنمية والسلام في منطقة تعاني منذ عقود من تقلبات السياسة والصراع.
قائمة المراجع
· Alhassan, Ibrahim, et al. 2019. Conflict and Natural Resources Management in MENA. Environmental Policy Review.
· Alshadadi, A., and S. Deshmukh. 2024. "Political Volatility and Investment in Blue Economy Projects." Middle East Economic Review.
· Donelli, Federico, and Giuseppe Dentice. 2020. "Middle Eastern Geopolitics and the Horn of Africa: A Security Paradox." Italian Institute for International Political Studies (ISPI).
· Gebru, Biniam, et al. 2023. "Geopolitics and Maritime Security in the Horn of Africa." Journal of African Security Studies.
· Parent, Olivier, and Abdallah Zouache. 2022. "On the Political Economy of Conflicts in the Middle East and Africa." Research Square Preprint.
· United Nations. 2023. Background: Preventing a Red Sea Spill – FSO Safer Crisis. United Nations, Stop Red Sea Spill Campaign. https://www.un.org/ar/stopredseaspill/background
· Mwani Qatar. “مركز الإحصائيات.” Accessed September 2025. Mwani Qatar – About Us – Performance Statistics. https://www.mwani.com.qa/Arabic/AboutUs/Pages/PerformanceStatistics.aspx
Be the first to comment!