مفترق طرق بين التجارة والطبيعة
يقف البحر الأحمر اليوم عند مفترق طرق حاسم؛ فهو ممر مائي استراتيجي تمر عبره 12% من التجارة العالمية، وهو في الوقت ذاته كنز طبيعي هائل من الموارد البحرية والتنوع البيولوجي. بالنسبة لليمن، التي تطل على أحد أهم المضائق في العالم (باب المندب)، يصبح الحديث عن الاقتصاد الأزرق ليس مجرد خيار للتنمية، بل هو وسيلة حيوية لإحياء اقتصاد دمرته سنوات من الصراع. كما يفتح التعاون الإقليمي في استثمار هذا البحر آفاقًا واسعة للتكامل الاقتصادي، وتعزيز الأمن الغذائي، وحماية البيئة للأجيال القادمة.
ما هو الاقتصاد الأزرق؟ ولماذا هو محور المستقبل؟
الاقتصاد الأزرق هو الاستخدام المستدام للموارد البحرية لتحقيق النمو الاقتصادي، وتحسين سبل العيش، وخلق فرص العمل، مع الحفاظ على صحة النظم البيئية البحرية. فهو يشمل عدة قطاعات:
١.النقل البحري
٢.الطاقة المتجددة
٣.الصيد المستدام
٤.السياحة الساحلية
٥.التكنولوجيا الحيوية البحرية
يعد البحر الأحمر، بموقعه الفريد وثرائه البيولوجي، أحد أغنى المسطحات المائية في العالم، ولكنه أيضًا من أكثرها حساسية تجاه التغير المناخي والتلوث. لذلك، فإن الاستثمار فيه هو استثمار مزدوج: دعم الاقتصادات الوطنية مع حماية الإرث الطبيعي.
اليمن: إرث بحري غائب وفرص كامنة تنتظر الصحوة
رغم التحديات الهائلة، تمتلك اليمن إمكانات هائلة لقيادة اقتصاد أزرق مزدهر.
1. قطاع المصايد: من الفوضى إلى الإدارة المستدامة
يمثل الصيد مصدر رزق لمئات الآلاف من اليمنيين مباشرة وغير مباشر. لكن القطاع يعاني من الصيد الجائر والعشوائي، وضعف البنية التحتية للتخزين والتسويق، مما يؤدي إلى هدر كبير في الإنتاج. الحل يكمن في تبني نظم الإدارة العلمية، وإنشاء محميات بحرية، ومكافحة الصيد غير القانوني.
2. الاستزراع السمكي: طفرة قادمة تتحدى التقاليد
ما زال الاستزراع السمكي (أقفاص الأسماك، تربية المحار، زراعة الطحالب) محدودًا بسبب نقص التمويل والخبرة. لكنه يقدم بديلاً مستدامًا يخفف الضغط على المخزون السمكي الطبيعي ويرفع الإنتاجية.
ومن المثير للاهتمام الممارسات المحلية في مدن مثل المخا، حيث يقوم الصيادون بإغراق المواد الخردة والإطارات لإنشاء شعاب مرجانية اصطناعية لجذب الأسماك. بينما تُظهر هذه الممارسة مبادرة مجتمعية، إلا أنها تشكل تلوثًا بحريًا واضحًا. هنا تكمن الفرصة: استبدال هذه الممارسات بحلول مستدامة مدروسة، مثل إنشاء شعاب اصطناعية مصممة هندسيًا صديقة للبيئة، بدعم من منظمات التنمية الدولية.
3. الموانئ واللوجستيات: إعادة إحياء البوابة التجارية
تمتلك اليمن أصولًا لوجستية استراتيجية، أبرزها ميناء عدن والمكلا. بإمكان هذه الموانئ أن تتحول إلى مراكز إقليمية للتزود بالوقود وإصلاح السفن، وإعادة التصدير، إذا ما استثمر في تطوير كفاءتها وربطها بشبكات التجارة العالمية. نموذج جيبوتي القريب خير دليل على كيف يمكن تحويل الموقع الجغرافي إلى ثروة وطنية.
4. السياحة البحرية: كنز نائم تحتاج إلى مفتاح الأمان
تمتلك اليمن سواحل خلابة وجزرًا متعددة يمكن أن تكون وجهة عالمية للغوص والسياحة البيئية. إلا أن هذه الصناعة شبه غائبة حاليًا. الشرط الأساسي لإطلاقها هو تحقيق الاستقرار والأمن، يليه استثمار في بنية تحتية سياحية راقية ومستدامة تحافظ على البيئة ولا تلوثها.
دروس مستفادة من جيران البحر الأحمر
السعودية: الفخامة المستدامة
مشروع "ذا ريد سي" (The Red Sea) هو نموذج عالمي يجمع بين التطوير السياحي الفاخر والحفاظ على البيئة، حيث يتم الحفاظ على 75% من الجزر وتطوير أقل من 1% من المساحة الكلية، بهدف تحقيق تأثير بيئي إيجابي صافٍ بنسبة 30% بحلول 2040.
https://en.wikipedia.org/wiki/The_Red_Sea_Project?
مصر: التنويع لتفادي المخاطر
بينما تظل قناة السويس مصدر دخل حيوي، تعلمت مصر من تقلبات الملاحة ضرورة التنويع. فهي تستثمر الآن بقوة في مشاريع الوقود الأخضر والهيدروجين والطاقة المتجددة على سواحل البحر الأحمر، لتوسيع قاعدة اقتصادها الأزرق.
جيبوتي: قوة اللوجستيات
استغلت جيبوتي موقعها الاستراتيجي لتصبح مركزًا لوجستيًا بحريًا عالميًا، حيث تضم سبعة موانئ متخصصة. وعائدات هذا النجاح تم استثمارها في تطوير البنية التحتية وصندوق ثروة سيادي.
https://en.wikipedia.org/wiki/Port_of_Djibouti
الأردن: الابتكار رغم المساحة المحدودة
رغم صغر سواحله، طور الأردن منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، وأطلق مشاريع مبتكرة مثل منتزه العقبة البحري و مركز الابتكار للاقتصاد الأزرق ، يثبت أن القيمة لا تقاس بالكم بل بالجودة والابتكار.
خارطة طريق للتعافي: محاور الاقتصاد الأزرق
تحقيق التعافي، يمكن للدول المطلة على البحر الأحمر التركيز على 6 محاور رئيسية:
1. حوكمة المصايد: تطبيق أنظمة رقابية علمية لوقف الاستنزاف وضمان عائد مجزٍ للصيادين.
2. سلاسل التبريد والتجهيز: الاستثمار في مرافق التبريد والمعالجة لرفع جودة المنتج وتقليل الفاقد وزيادة القيمة السوقية.
3. تعزيز الاستزراع السمكي: دعم مشاريع تربية الأحياء المائية لخلق وظائف جديدة وضمان الأمن الغذائي.
4. إطلاق السياحة البيئية البحرية : تطوير سياحة مستدامة ترتكز على الطبيعة والتراث الثقافي.
5. تحويل الموانئ إلى مراكز استراتيجية : تطوير موانئ مستدامة وتقديم خدمات تموين السفن بالوقود النظيف.
6. التعاون الإقليمي: إنشاء هيئة أو منصة مشتركة لتبادل بيانات المصايد، وخطط طوارئ مشتركة، ومبادرات لحماية البيئة.
التحديات التي تواجه الطريق
١.نقص التمويل : هناك دائم حالة ملحة للتمويل خاصة في قطاع الاقتصاد الازرق
٢.التلوث والصيد الجائر : هذا يستنزف الموارد ويخل التوازن
٣.التغيير المناخي: وهذا يهدد الشعاب المرجانية والمناطق الساحلية
٤. التهديدات الامنية : عدم الاستقرار يضعف دائما ثقة المستثمرين
من بحر النزاعات إلى بحر الحياة
البحر الأحمر هو أكثر من مجرد خط على الخريطة؛ إنه شريان حياة وفرصة تاريخية. لليمن، يمكن أن يكون الاقتصاد الأزرق وسيلة للخروج من دائرة الصراع نحو التنمية والاكتفاء. للدول المجاورة، هو جسر للتكامل وبناء نموذج إقليمي فريد في التنمية المستدامة النجاح يتطلب رؤية موحدة توفق بين متطلبات الأمن والاقتصاد، وبين استغلال الموارد والحفاظ عليها. إذا أُحسن استغلال هذه الفرصة، فسيكون البحر الأحمر حقًا بحر الحياة والازدهار للجميع.
Be the first to comment!